لماذا يخشى بعض اليمنيين من الفيدرالية؟

Email :


في مشهد يمني يتسم بالتعقيد السياسي والانقسام الجغرافي والاجتماعي، لا تزال فكرة "الدولة الفيدرالية الاتحادية" تثير جدلًا بين القبول والتوجس. ففي الوقت الذي تُطرح فيه الفيدرالية كحل بنيوي ينقذ اليمن من أزماته المتراكمة، يبدي بعض اليمنيين تخوفًا من أن تتحول إلى بوابة للتفكك أو مدخلًا لصراعات جديدة في بلد لم يستقر بعد.
لقد جاء طرح الفيدرالية في اليمن بعد ثورة 2011، ضمن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، كخيار يهدف إلى إعادة هيكلة الدولة، وتحقيق توازن في توزيع السلطة والثروة بين الأقاليم. وُضع حينها تصور لدولة اتحادية من ستة أقاليم، في محاولة لمعالجة مركزية الحكم، وردم الفجوات التنموية، وتجاوز تركة التهميش.
لكن الفكرة، على الرغم من طابعها الطموح، وقف أمامها بعض المشدين للدولة المركزية. بل اعتبرها البعض إعادة إنتاج للهيمنة السياسية بشكل جديد، أو مدخلًا لتقسيم غير معلن. وهذه المخاوف حاولت بعض القوى السياسية الحريصة على المركز من إثارتها في أوساط الناس، ولم تترك لهم الفرصة لقراءة مخرجات الحوار الوطني الذي عكف عليه اليمنيين لما يقرب من عام كامل.
مصادر القلق والمخاوف المتكررة من الفيدرالية في اليمن تتنوع بين السياسية والاجتماعية والتاريخية. إذ يخشى البعض من أن تؤدي إلى تعزيز الانقسامات، بدلًا من إدارتها، خاصة في ظل غياب مؤسسات قوية، وتضارب الولاءات، وافتقار الثقافة الوطنية الجامعة.
كما يرى المتخوفون من الفدرالية أن تقسيم الأقاليم لا يعتمد على معايير تنموية واضحة، وهو ما دفع كثيرين للاعتقاد بأنه وُضع لخدمة توازنات سياسية مؤقتة لا تراعي مصلحة البلاد طويلة الأمد.
ومع غياب الثقة بين المكونات، وتراكم التجارب الفاشلة في تقاسم السلطة، أصبح الحديث عن أي تغيير في شكل الدولة محفوفًا بالتخوف، حتى لو حمل في جوهره مشروعًا إصلاحيًا.
اليوم وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على اندلاع الحرب، وما ترتب عليها من انقسامات جغرافية، وسلطات أمر واقع، ومؤسسات موازية، تغيّر المزاج الشعبي تجاه الفيدرالية لدى شرائح واسعة من اليمنيين.
فالفيدرالية لم تعد خيارًا ترفيًّا أو بندًا سياسيًا محل تفاوض، بل تحوّلت في أذهان كثيرين إلى مخرج ممكن لحالة الانسداد، وأداة ضرورية لإنهاء الصراع، وإعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة تقوم على الشراكة والعدالة.
لقد كشفت الحرب هشاشة النموذج المركزي، وعجزه عن استيعاب تنوع اليمن الجغرافي والثقافي والمناطقي. ومع الانقسام الفعلي القائم اليوم، بدأت تتبلور قناعة لدى فئات شعبية وسياسية أن الفيدرالية ليست خطرًا بل فرصة؛ وأنها إذا صُمّمت بوعي وتوافق، قد تُعيد توزيع السلطة بما يحقق التوازن والاستقرار ويوقف دوامة العنف.
في هذا السياق، تتزايد الدعوات لإعادة النظر في مخرجات الحوار الوطني بوصفها مرجعًا قابلًا للتطوير، ولصياغة نموذج اتحادي متوازن لا يُقصي أحدًا، ويضمن لكل إقليم حقه في إدارة شؤونه دون أن يخرج عن إطار الدولة الوطنية.
من المهم الإقرار بأن الفيدرالية، مثل أي نظام حكم، ليست بذاتها سببًا للنجاح أو الفشل. فنجاحها أو تعثرها يرتبط بشروط التنفيذ، ومدى التوافق السياسي حولها، والضمانات التي تحمي الدولة من التفتت. ففي تجارب دولية عديدة، كانت الفيدرالية سبيلًا لتجاوز الحروب والانقسامات، لكنها فشلت في دول أخرى حين تم تنفيذها دون تهيئة بيئة حاضنة، أو عندما فُرضت على مجتمعات لم تكن مهيأة لتقبلها.
إن الخروج من الحالة الراهنة في اليمن لا يتطلب فقط حلولًا سياسية آنية، بل صياغة عقد اجتماعي جديد يعالج جذور الأزمة، ويعيد بناء الدولة من الأساس. والفيدرالية قد تكون جزءًا من هذا الحل، خاصةً وأنها جاءت بعد حوار وطني شامل بين جميع الأطياف اليمنية.
ولذلك ينبغي أن يُعاد طرحها ضمن رؤية واضحة تضمن وحدة البلاد، وعدالة توزيع الثروات، وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وتكريس الحكم الرشيد في كل إقليم. كما يجب أن تُبنى على أساس دستور توافقي، ومؤسسات تحمي المشروع من الانزلاق إلى التفكك.
ما أريد قوله نحن اليوم في مفترق طرق. فإما أن يُعاد إنتاج نفس النماذج الفاشلة، أو أن تُخاض مغامرة إصلاح عميقة، تكون الفيدرالية فيها جزءًا من الحل لا من المشكلة.
ففي ظل ما تعيشه البلاد من انقسامات، تبقى الفيدرالية هي الخيار العقلاني القادرة على تنظيم هذا التنوع، وتحويله من عامل صراع إلى عنصر قوة. وركيزة لبناء يمن جديد، ينتمي فيه الجميع لوطن واحد تتسع فيه الحقوق والفرص والمسؤوليات.


كلمات دلالية
  1. لا يوجد اي تعليق
أضف تعليقا

مواضيع ذات صلة