مشهد مؤلم تكرر بكثافة طوال عهد أئمة بيت حميد الدين البائس

الأستاذ بلال الطيب

رئيس تحرير صحيفة الجمهورية في تعز

Email :


ركب اليمانين المُشردين


من اللحظات الأولى لاجتياح عساكر الإمام يحيى حميد الدين المناطق الوسطى (تعز، وإب) بقيادة ذئبه الأسود علي بن عبدالله الوزير، والمناطق الغربية بقيادة عدد من رجالات دولته، وقع سكان تلك المناطق بين خيارين كلاهما مُر: البقاء أو الرحيل.

لم تعد - وفق تلك المفارقة الصعبة - رحلة من قرروا الهروب من ذلك الجحيم، شتـاءً أو صيـف؛ بل صارت في كل الفصول، ومسكونة بالجوع والخوف. وفي المقابل لم يعد يبقى في القرى الخضراء سوى الشيوخ، والأطفال، والنساء، يندبون حظهم العاثر، ويشكون لله ظلم الإمام، وجور العساكر، ويبكون فراق الأب، والابن، والأخ، والزوج.

سجنٌ كبير

في مُذكراته تحدث المناضل عبدالغني مطهر العريقي عن رحلته الأولى إلى المهجر - أواخر العام 1932م، وعمره لا يتجاوز الـ 12 ربيعًا، وهي تفاصيل طويلة اختزلت جُلَّ المعاناة، شبه بلده بـ (السجن الكبير) الذي «نسجت جدرانه عناكب الحكم الإمامي، فاختنقت الحريات في شباكه، وأهدرت في براثنه كرامة المواطنين»، والذي لا يسمع نزلاؤه سوى ما يجري من إذلال وتعذيب. وعَدَّ الهروب من ذلك السجن نجاة، مُستدلًا بقوله تعالى: «أو لم تكن أرض الله واسعة».

وفي أنته الأولى خاطب الأستاذ أحمد محمد النعمان السلطات الإمامية الغاشمة قائلاً: «لقد صبرنا حتى سئمنا الصبر، وسئمنا للصبر نفسه، وكادت الشعوب التي ملأنا أرصفتها، وموانيها، وشوارعها أن تجأر بالشكوى، وتصيح بملء فيها من عناء احتمالنا، ومزاحمة سكانها».

وأضاف: «لقد خجلنا من المقام في الغربة عالة على الأجانب، نتقلد أشق الأعمال وأتفهها، وبلادنا الغنية بثرواتها ومعادنها وخيراتها كانت أحق بجهودنا وكدّنا وتعبنا لو وجدنا مجالًا للعمل، فإلى متى ترضون لرعاياكم الاستمرار على هذه الحالة المحزنة ينتظرون فضلات الأمم، ويستجدون الشعوب».

وأردف: «من ينكر اليوم أنَّ سيل الهجرة الجارف يجتاح الرجال والأطفال والشبان، وعصي الجوع تسوقهم وسوط الظلم يشردهم ويُنفرهم، فهل من عطف وإشفاق؟ هل هناك عدل يعود الناس إلى ظله، ويتدثرون بُبرده، أم الحالة لا تزال هي هي، ورجال الظلم هم هم.. إننا لم نفضل الغربة على الإقامة عن رضى واختيار؛ بل هاجرنا عن ضرورة شديدة كادت أنْ تودي بنا».

بعد هروبه إلى عدن يونيو 1944م، بعث القاضي محمد محمود الزبيري برسالة نارية إلى الإمام يحيى، ومنها نقتطف: «وبلغ البؤس بشعبكم في هذه الآونة أمدًا أكل الناس الحمير، والقردة، وفتّو الروثة والبعرة ليأكلوا حطام الحبوب التي لفظتها أمعاء البغال والخيول، وحتى بلغ الناس من العنف والاضطهاد أنْ هاجرت النساء أفواجًا إلى عدن فِرارًا من عُنف العسكر وامتهانهم، وهذه حقائق حَاضرة نحن على أتم استعداد في البرهان عليها حتى لا يكون فيها شك ولا ريب».

وأضاف: «أن أمة هرب ربع سكانها إلى الخارج، وليس فيها طبيب ولا مُهندس، ولا مُحامي، ولا جرائد، ولا مطابع، ولا زراعة، ولا تجارة، ولا صناعة، ولا جيش بمعنى الكلمة، فمن المُستحيل أنَّها تدفع عن نفسها تيار الاستعمار الجبار فيما إذا هاجمها ولو بطائرة واحدة».

ومن عدن أيضًا، خاطب سيف الحق إبراهيم والده الإمام يحيى في إحدى رسائله المنشورة في صحيفة (صوت اليمن) قائلًا: «يا أبتاه.. هل سألتم عن أبناء اليمن الذين قضى عليهم أخي أحمد والحسن بجورهم وتعسفهم؟ هل استفسرتم عن أحوالهم؟ إنها تُعجل بالنقمة، فقد بلغت الأحكام الدرجة القصوى من الظلم والاستهتار بالشريعة، ولا يحاسبهم أحد على أعمالهم».

وأضاف الأمير إبراهيم: «أما أهالي لواء تعز وإب فقد ضاقت عدن بمهاجريهم في الأيام الأخيرة فرارًا من ظلم الحسن وأحمد، ومن يستر عنكم الحقائق ويقول أنَّ الحالة في اللواءين كما يُرضي فقد كذب عليكم، فلا يوجد في اللواءين ابن أنثى لم يصبه الظلم، والنهب، والهتك».

وخاطب في رسالة أخرى الرعية الكادحين المغلوبين على أمرهم قائلًا: «أما أنتم أيها الزراع الكادحون، فخطبكم عظيم، وحالكم أليم، وقد طال صبركم على جور العمال، وعسف المأمورين النهابين، وأذية العسكر "المخططين، والمنفذين"، الذين يحتلون منازلكم، وينتهكون حرمة بيوتكم، وطالما اعتبركم الظالمون خولًا وعبيدًا، تزرعون ليأكلوا، وتجوعون ليشبعوا، وتشقون ليسعدوا، ثم أنَّهم لا يرحمونكم أذا أجدبتم، ولا يساعدونكم إذا افتقرتم، ولا يداوونكم إذا مرضتم، وقد ضعفت أحوالكم، وتناقصت أجوركم، وبعتم أراضيكم، وهاجر بعضكم إلى خارج البلاد فرارًا من الظلم، والعسف، وطلبًا للعيش الذي حرمتموه في وطنكم».

أجبرت الظروف بعض أولئـك الهاربين على الالتحاق بالجيش البريطاني، والجيش الإيطالي، وبنشـوب الحرب العالمية الثانية حلَّت الكارثة، وحـَدث أنْ تقاتل الأخـوة تحت راية تلك الـدول المُتصـارعة، ولا أقسى من توصيف الشاعر محمد أنعم غالب لذلك المشهد المؤلم، حيث قال على لسان أحدهم:

> بندر المحيا:
حـاربت لا دفاعًا عن وطن
حـاربت من أجل الرغيف
بجـانب الفاشيست
وفي الليالي السـود بين الدم واللهب
رأيت لي صحابًا.. كانـوا من اليمن
في الجانب المُضـاد
حاربتهم وحاربـوني
لا دفاعًا عن مثـل
وكان لا يهم من يعيش أو يمـوت
ولا يهم قاهـر أو منكسر

في رسالته التي بعثها لأمين الجامعة العربية عرَّج المناضل عبدالله علي الحكيمي على هذه المعاناة، وقال أنَّه وفي حال أحاط الأعداء باليمن من كل جهة، فلم يعد يبقى بسبب ذلك الهروب من يقوم بمهمة الدفاع عنه، وأضاف: «وليس في اليمن من يدافع عنها، فثلث الأمة قد قضى - أي الإمام يحيى - عليها، وثلثها قد تاهت على وجه الأرض، والثلث الأخير ينقسم إلى قسمين، قسم في غياهب السجون، وقسم قد أضناه المرض والجوع».

الركب الطويل

ما أنْ وزع الطاغية يحيى حميد الدين بنيه سيوف الإسلام (السيوف الأثرية حد تشبيه شاعر فلسطيني) على أعمال اليمن، اشتد الظلم، وعمَّ البلاء، وعن ذلك قال الشهيد محمد محمود الزبيري:
والشعـبُ في ظِلّ السـيوفِ ممزقُ ال
أوصـــالِ، مضطـــهدُ الجَنـــابِ يضامُ
وعليـه إمَـا أنْ يُــــغــــادرَ أرضـــــَــهُ
هـــرَبًــــا وإلا فـالــحيــــــاة حِــمــامُ

وبلغة التعزي الموجوع ترجم الشاعر أحمد الجابري ذلك المشهد المؤلم بغنائية حزينة، فيها دعوة صريحة للهروب من جحيم الأئمة السُلاليين وعساكرهم، قال فيها:
المـــــطـــــــر يســكــــــــــــــــب
مــــــو يـــــفـــــــيــــــد نصـــرب
والـــــذئــــــاب تــــقـــــــــــــرب
هــــــربـــــــــوا جـــــا اللـــيــــل

من جهته الشاعر محمد أنعم غالب عبر عن تلك المعاناة بصورة أشمل بقصيدته الشهيرة (الغريب)، ومنها نقتطف:
طارده الجباة
وباع نصف ثروته
ليدفع الزكاة
وأجرة التقدير والجباة والجنود
ورشوة الحاكم والأمير
ولم يكن وحده في هذه المأساة
وفي الطريق صادف الكثير مثله
وفي نفوسهم نفس الحنين
للرحيل
وألقت السفن حملها بشاطئ مهجور
وأطلق في نهاية القصيدة هذا التساؤل الصارخ:
يا ركب اليمانين المشردين
يا من أراكم تعبرون كل درب
وتعمرون كل أرض
وأرضكم خراب
يا أيها الركب الطويل
متى تعود؟
متى تعود؟

نصـف الشعب مُشرد

كان عدد سكان المملكة المُتوكلية (الإمامية) بعد خروج الأتراك من اليمن لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، وقيل أقل من ذلك، مئات الآلاف منهم قضوا نحبهم بفعل المجاعات، والأمراض، والحروب التي لم تتوقف، و1,200,000 منهم تفرقوا في أغلب بلدان الله، هروبًا من ذلك الجحيم، وهكذا تناقص سكان اليمن، ووصل عددهم في أواخر أربعينيات القرن المُنصرم إلى حوالي ثلاثة ملايين نسمة.

كانت أغلب بلـدان الله مَحط رحال، ومهوى أفئـدة، وكانت عـدن المدينة، والحبشة الدولة، الأقرب للجوء اليمنيين الاضطراري، تشاركهما عديد دول إفريقية، وأوربية، وإنْ بنسبة أقل، انقادت إليها خطاهم بلا توقف، واستقبلتهم بلا عراقيل، ككائن أدمي مُرحب به، أنشأوا فيها مستوطنات يمنية، ونظموا أنفسهم، واحتكوا بثقافتها، ولم يعودوا يفكروا بالعودة إلى الوطن حتى تعود العدالة والكرامة المسلوبة.

بعد تولي الطاغية أحمد يحيى حميد الدين الإمامة مارس 1948م، أرسل الشيخ محمد سالم البيحاني إليه بقصيدة ناصحة، مُهنئًا إياه بالنصر، ناثرًا فيها بعض المطالب الإصلاحية، ومما جاء فيها:
وجميع ما نــــرجـــوه من فضل الإمـــام
هـــو الـمضـــــي بـمـــجــده الـمعهــــود
في فــــك مسجـــــون ورد مــهـــاجـــــر
تــرك البــلاد وعـــاش بـــيــــن هــــنود

وعلى ذات المنوال الناصح، قال الشاعر عبدالله البردوني في إحدى قصائده:
عيـــــد الجلـوس أعــــر بلادك مسمعًا
تنـبيـــك أيــن هناؤها هـــــل يــوجــد
فيـــم السرور ونصــف شعــبك هاهنا
يشقي ونصـــــف في الشعوب مُشرد

مع نهاية العام 1959م توجه الاستاذ أحمد محمد نعمان من القاهرة إلى عدد من دول المهجر بغرض التعرف على أحوال المهاجرين فيها، وجمع تبرعات لإنشاء كلية بلقيس كصرح تعليمي يلم شتاتهم، ويربط أولادهم بوطنهم الأم، وفي ليبيا التقي بعدد منهم ممن سبق والتحقوا بالجيش الإيطالي في الحبشة، حيث قادتهم الدولة الفاشية لمحاربة إخوانهم العرب، إلا أنَّهم انظموا إلى صفوف الثوار، وقاتلوا تحت قيادة البطل العربي الشهير عمر المختار.

وجدهم الأستاذ النعمان وأقرانهم في تونس «راضون عن أحوالهم ومعيشتهم، لا يفكرون بأمر اليمن، ولا يخطرونها على بالهم»، وبالنسبة لليمنيين المتواجدين في المغرب، فقد سجل النعمان إعجابه الشديد بهم، وبأحوالهم، فهم - حد وصفه - مهتمون بالتعليم، شديدو الحنين لليمن، وقدر عددهم في الدار البيضاء وحدها بحوالي 1,000 نسمة.

> بندر المحيا:
إحصائيات اليمنيين في باقي البلدان لم تكن دقيقة في ذلك الوقت، وسأكتفي هنا بذكر أهم بلدين توفرت إحصاءاتهما، الأولى: بريطانيا، وقد بلغ عدد اليمنيين فيها في العام 1946م حوالي 60,000 نسمة، والثانية: الحبشة، حيث قُدر عدد المهاجرين فيها بأكثر من نصف مليون نسمة، وذكرت صحيفة (الفضول) في إحدى أعدادها الصادرة بنهاية عام 1952م أنَّ عدد المهاجرين اليمنيين بلغ نحو 1,125,000 نسمة.

وفي ذات الصدد قدرت إحدى الإحصائيات التي تعود إلى عام 1961م عدد اليمنيين في الدول العربية، والحبشة، والصومال، وفرنسا، وإنجلترا، والولايات المتحدة الأمريكية، بحوالي 600,000 يمني، في حين أكدت حكومة الجمهورية أنَّ الذين كانوا يعيشون في الخارج أثناء قيام الثورة السبتمبرية وصل نحو 1,200,000 مُغترب يمني.

وما يميز اليمنيين في الحبشة أنَّهم انشؤوا مدرسة كبرى 1948م، وتخرج منها الآلاف، أشهرهم الأديب أحمد محمد عبدالولي الذي خاطب أقرانه ذات رواية: «لا تنسوا أنتم.. أنَّ هذه الأرض لن تنفصل عنكم، مهما هربتم، إنَّها جزء منكم، تطاردكم، ولا تستطيعون منها فكاكًا، أنتم يمنيون في كل أرض.. وتحت كل سماء..».

أين القبلة؟!

وبدلًا من قيام السلطات الإمامية بإصلاح الأوضاع، وتهيئة الظروف، وتطمين المهاجرين الهاربين من جحيمها، وحثهم على العودة لإنعاش اقتصاد البلد المُنهك، أصدرت بيانًا بائسًا 26 فبراير 1938م، لغمته بالمفردات الفاضحة الحاثة على العودة إلى البلد، على اعتبار أنَّ تلك العودة هي عودة إلى خالقهم أصلًا، حيث لا تتحقق عبادة الله جل في علاه إلا في بلد الإيمان والحكمة، أما في بلاد الله الأخرى فلا يعرف أولئك المُغتربون حتى اتجاه القبلة!

وحول هذه الجزئية المُضحكة المُبكية جاء في إحدى فقرات ذلك البيان ما نصه: «وأما أمر الدين فالمصاب في ذلك أعظم وأجل، والظاهر على كل من ركب البحر أنَّه يترك الصلاة والصيام، وما أوجب الله عليه، ويغرق في الآثام، ويدخل بلدان لم يعرف فيها أين القبلة، ولا يوجد فيها مسجد، ولا من يدين دين الإسلام، أو يقول لا إله إلا الله، ولا من يعرف وقت صلاته وصومه، وغير ذلك من الشرور التي إذا تحققت منه كانت ردة والعياذ بالله».

لم يتطرق البيان للأسباب التي قادت اليمنيين للاغتراب؛ بل تهكم على المغتربين، واتهمهم بالجهل، وجاء في مقدمته ما نصه: «نظرًا لما شوهد من تهافت الجاهلين على اقتحام الاغتراب عن أوطانهم، وركوبهم البحر إلى البلاد الأجنبية، وإقدامهم على ذلك إقدام الطامعين في الغنيمة، توهمًا بأنَّه في غير بلادهم تكثر الأرزاق، وما توهموه وظنوه هو الظن الكاذب، والرجاء الخائب».

وختم البيان مفرداته بمرسوم مُتوكلي، فيه أوامر صريحه للمراكز الإمامية بمنع اليمنيين من الاغتراب، هذا نصه: «فلذلك كله؛ أصدرنا أمرنا الشريف بمنع ارتكاب أهل اليمن بحرًا لأجل التكسب، ومنعنا عن ذلك منعًا باتًا، وحررنا إليكم هذا لتفهموا من بجهتكم بما أمرنا به، ليصونوا أنفسهم من تعب السفر، وإرجاعهم إلى بلدانهم من السواحل، واهتموا بهذا غاية الاهتمام».
وفي رده على ذلك البيان قال الكاتب التهامي عبيدالله محمد عبيد في مقالٍ له، أنَّ هجرة اليمنيين سببها الظلم، وقدم نصيحته الصادقة للإمام يحيى بتأليف حكومة نظامية ذات مسؤوليات، وإدارة تفتيش على أعمال الحكام والعمال، وفند بالحجة الدامغة بعض فقرات البيان، وقال إنَّ الاغتراب لا يفسد الدين أو يضيع الأخلاق، مُستدلًا بقوله تعالى: «قل سيروا في الأرض»، وقوله تعالى: «فامشوا في مناكبها وكُلوا من رزقه»، أما في جزئية معرفة اتجاه القبلة، فقال: أنَّه أيما يولي المسلم وجهه فثم وجه الله.

كلمات دلالية
  1. لا يوجد اي تعليق
أضف تعليقا

مواضيع ذات صلة